دَأَب المسلمون على أن يحتفلوا بذكرى إسراء المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى البيت المقدس، ثم عروجه إلى السماوات العلا في هذا الشهر المبارك، بل في السادس والعشرين من هذا الشهر المبارك حصراً، وقد اختلف العلماء في ميقات الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان على كل حال بعد وفاة كل من عمه وزوجه خديجة رضي الله عنها، وكان ذلك قبل هجرة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة ببضعة عشر شهراً.
ومما لا ريب فيه ولا شك أن الله عز وجل قد أكرم رسوله صلى الله عليه وسلم بجملة من الخوارق والمعجزات كان في مقدمتها ما أنبأ بيان الله سبحانه وتعالى من الإسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. ألا وهو القائل: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].
كان ذلك ليلاً. السُّرى في اللغة العربية لا يكون إلا ليلاً. ولعلنا نتساءل فلماذا قال بعد ذلك: ليلاً، والسُّرى لا يكون إلا ليلاً؟ لماذا قال: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}؟ الجواب عن هذا: أن البيان الإلهي قيد الإسراء بكلمة ليلاً وهي نكرة، نكرة؛ ليوضح لنا أن الإسراء لم يستغرق كامل الليل، وإنما استغرق جزءاً من ليل، من أجل ذلك قيد البيان الإلهي كلمة الإسراء بكلمة ليلاً مُنَكَّرة كما ترون.
ومما لا شك فيه أيضاً أن الإسراء الذي أكرم الله عز وجل به رسوله صلى الله عليه وسلم كان بكل من الجسد والروح. فلم يكن رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولو كان ذلك رؤيا لما استعظم المشركون إخبارهم بذلك، ولما كذبوه، ولما عاد بعض ضعاف الإيمان من الإيمان إلى الكفر، ولما تعجب بعض المشركين فوضعوا أيديهم على رؤوسهم استعظاماً للأمر واستنكاراً.
المنام، كل إنسان يمكن أن يرى من الرؤى ما لا حصر له وما لا حد له، يمكن أن يرى نفسه يعرج إلى السماوات العلى، يمكن أن يرى نفسه قد سار وأسري به إلى شرق العالم وغربه، ولا يوجد من يعجب من ذلك، لأنها أمور معتادة دأب الناس كلهم على أن يعرفوها من أنفسهم فضلاً عن غيرهم.
ولكن المشركين استعظموا خبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وكذبوه، وظنوا أنهم قادرون على أن يزعزعوا إيمان أبي بكر الصِّديق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتسارعوا إليه يقولون: أسمعت ما يقول صاحبك؛ إنه يقول كذا وكذا وكذا؟ فقال لهم هادئاً مطمئناً: لئن قال كذلك فقد صدق. إني لأصدقه على ما هو أبعد من ذلك.
هذه نقطة تتعلق بالعقيدة ينبغي أن نعلم أن الإسراء إنما كان بجسده وروحه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن بروحه مناماً فقط، للسبب الذي ذكرته لكم، بل للدليل الناصع الواضح الذي ذكرته لكم. على أن بيان الله عز وجل أوضح ذلك عندما قال ربنا سبحانه: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} {أَسْرَى بِعَبْدِهِ}: وصف العبودية إنما يتجلى بالذّل والانكسار والتواضع، وهذه الصفة إنما تتجلى على الكيان البشري للإنسان، إنما يتجلى وصف الانكسار ووصف الذّل في كيان الإنسان جسماً، ومن أجل ذلك قال ربّنا عز وجل: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} أي بهذا الكينونة البشرية {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} بهذا الجسم البشري الذي ظل دائماً مصطبغاً بذلّ العبودية لمولاه وخالقه، ذلّ العبودية لا يتجلى في المعاني الروحانية، لا يتجلى في الأمور الوهمية، وإنما يتجلى ذلّ العبودية والانكسار عبوديةً لله عو وجل في الكيان الجسمي.
ولكن ما الحكمة من أن يشاء الله عز وجل أن يجعل هذه الخارقة متمثلة في سُرًى بالليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى دون غيره؟ لماذا إلى المسجد الأقصى دون غيره؟ لأنهما مكانان لا ثالث لهما - أيها الإخوة - آنذاك في الكرة الأرضية، قدَّسهما الله سبحانه وتعالى، وبارك فيهما، أولهما المسجد الحرام، ثانيهما المسجد الأقصى، وإنما يسمى الأقصى أو سُمي آنذاك بالأقصى لأنه لا يوجد من بعده أي مسجد يُحَج إليه أو يزار، فهو أقصى مسجد في المعمورة يبتعد عن المسجد الحرام آنذاك، كانت هذه الخارقة متمثلة في هذا الربط الدقيق الباهر بين قدسية المسجد الحرام وقدسية المسجد الأقصى.
تجلت هذه القدسية وتجسدت في الصلة التي ما بين هذين المسجدين، وتجسدت هذه الصلة بهذا الإسراء؛ إسراء الله سبحانه وتعالى برسوله بالوسيلة التي شاءها من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، جعله الله عز وجل بياناً باهراً بليغاً يوضح مدى قدسية المسجد الأقصى، وكأنهما كفتان متعادلتان فيما يتعلق ببركات الله سبحانه وتعالى التي أنزلها على أرضه هذه.
ثم إن الله عز وجل شاء أن يجعل في هذه السُّرى في إسراء الله عز وجل برسوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ينزل فيه، ويصلي فيه ركعتين، ويتمثل له الأنبياء وقد جيء بهم ليأتموا به صلى الله عليه وسلم مع العلم بأن المسجد الأقصى كان آنذاك أطلالاً، وكان أنذاك بقايا من جدران وأعمدة لم يكن أكثر من ذلك، ما المعنى الذي أراد الله عز وجل أن يوحي به إلينا، وأن يستقر في أعماق نفوسنا بل في خَلَدنا وعقولنا؟ إنه بيان ناطق بقدسية هذا المسجد الأقصى، وبأنه عُهدةٌ عَهِدَ بها الله عز وجل إلى رسوله أولاً، ثم إلى أصحابه وأتباعه إلى يوم القيامة ثانياً.
ينبغي أن يكونوا حرَّاساً لهذا المكان الذي باركه الله عز وجل وبارك ما حوله، ينبغي أن يكونوا حرَّاساً جيلاً بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أو ما عليها لهذا المكان العتيد، لهذه الأرض المقدسة، ومعاني تقدسيها كثيرة يضيق الوقت عن بيانها وتفصيلها في هذه الساعة.
إذن هذه الخارقة التي أكرم الله عز وجل رسوله إنما هي رسالة أرسلها الله عز وجل إلى عباده جميعاً إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق رسوله، تقول: هذا المسجد أمانة بين أيديكم، عُهدة يجب عليكم المحافظة عليها، سيتعرض هذا المسجد للأذى، سيتعرض هذا المسجد لدنس المجرمين الضالين الفسقة العتاة التائهين عن صراط الله عز وجل، والمطلوب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، أمة الاستجابة، المطلوب منها أن يكونوا إلى قيام الساعة أعيناً حارسة لهذا المكان المقدس، بل أن يكونوا قُوى حارسة تكلأ هذا المكان المقدس ألا يُدَنَّس، وإن سرى إليه أي دنس فإن واجبهم أن يضحوا بكل ما يملكون في سبيل تطهير هذه البقعة الطاهرة.
وصلت الرسالة إلى أصحاب رسول الله والخلفاء الراشدين، ونهضوا بما كلفهم الله سبحانه وتعالى به، شُيِّد المسجد الأقصى مرة ثانية، وأُتِم بناؤه، طُهِّر المسجد الأقصى في عهد عمر بن الخطاب من الأقذار التي كان يتسابق إليها اليهود بأمر من الرومان وآخرون، عَمِد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فأخذ يطهر الصخرة بردائه من الأرجاس ومن الأقذار التي كانت هناك، فتسابق الناس من وراء أمير المؤمنين إلى تطهير هذه البقعة المقدسة من الدنس والرجس، ومن ذلك اليوم تألق المسجد الأقصى وتطهر من الأدناس كلها، إذن أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم كانوا على العهد، وقرؤوا الرسالة كما ينبغي، وأَدَّوا حقّ الله عز وجل عليهم في مضمون هذه الرسالة.
ثم إن الصليبية جاءت كما تعرفون فغزت غزوها، وعادت تدنس المسجد الأقصى، فهل استقر الأمر للصليبية الحاقدة إلى يومنا هذا، واستقر الأمر لها على ما ابتغت؟ لا. أرسل الله سبحانه وتعالى من عباده الصالحين الملتزمين بأوامره المصطبغين بذلّ العبودية لله سبحانه وتعالى، فبذلوا كل ما يملكون؛ بذلوا الروح والمال والسلاح وكل ما يملكون من قدرات إلى أن طُهِّر المسجد الأقصى من الرجس الذي حاوله عتاة الصليبية كما تعرفون، وهكذا جاء من قبلنا فكانوا خير من قرؤوا هذه الرسالة، وخير من نفذوا أمر الله سبحانه وتعالى فيها، وأنجزوا الواجب الذي حَمَّلهم الله عز وجل إياه.
واليوم يعود أولئك البغاة الماكرون أقذر من هم في العالم قذارة اليهود الصهاينة، يتبعهم الصليبيون الذين دفعوهم بمخططات يطول الحديث عنها، يعودون إلى تقذير هذا المسجد الأقصى. ورسالة الله عز وجل لا تزال تقرع أسماعنا، وبيان الله عز وجل البليغ فيها لا يزال يخاطبنا، فأين هم خلفاء أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم الخلفاء الراشدين؟ أين هم خلفاء صلاح الدين الأيوبي؟ أين هم خلفاء ذلك الرعيل الذين جاؤوا فأدّوا أمانة الله عز وجل في أعناقهم؟
نلتفت يميناً وشمالاً ونصغي إلى البيت المقدس وهو يئن ويهتف، يبحث عن الأناس الذين قرؤوا رسالة الله سبحانه وتعالى ليأتوا فينفذوا أمره، ولكن المسجد الأقصى غريب اليوم، غريب عن العالم الإسلامي، بل العالم الإسلامي غريب عنه أيضاً، نلتفت يميناً وشمالاً إلى من يمكن أن نقول: إنهم قد جاؤوا بعد ذلك الرعيل الأول، ثم الرعيل الثاني، وها هم ينهضون لأداء هذه المهمة ولإنجاز مضمون هذه الرسالة نلتفت يميناً وشمالاً فلا نرى، لا نرى إلا خَوَراً، لا نرى إلا عكوفاً على الشهوات والأهواء، لا نرى إلا أناساً يعبدون كراسيهم، لا نرى إلا رجالاً صغاراً صغاراً، الأطفال الذين يتحركون في المهد أكبر منهم شأناً وعزاً، لا نرى إلا هؤلاء الرجال الصغار، معشوقهم طعامهم وشرابهم، محبوبهم شهواتهم وأهواءهم، مهوى قلوبهم كراسيهم، أجل.
لا دين لهم إلا هذا، ولا مطلب لهم إلا هذا. المسجد الأقصى.. ليحترق.. المسجد الأقصى.. ليتهدم. المسجد الأقصى.. ليرتع فيه الصهاينة ما شاؤوا أن يرتعوا، أما هم فلا شأن لهم بذلك، لا شأن لهم إلا بالكراسي التي يتبؤونها، لا حُلُم لهم إلا أن يتقلبوا في مِهاد أهوائهم وشهواتهم، هذا هو الواقع الذي نراه. أنجز المسلمون من قبل الواجب الذي أناطه الله سبحانه وتعالى في أعناقهم، ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسيلقون غياً.
يا عباد الله: لا يجوز لنا أن نيأس من رَوْح الله، والمؤمن دائماً متفائل، ومُعْتَمَده في هذا التفاؤل ليس سبباً من الأسباب المرئية، فنحن لا نرى سبباً من الأسباب المرئية يدعونا إلى التفاؤل، ولكن مُعْتَمَدنا في التفاؤل قدرة الله عز وجل، سلطان الله عز وجل، هو القادر على أن يخلق من اللا شيء شيئاً، هو القادر على أن يهدي هؤلاء التائهين والضالين، هو القادر على أن يوجد من قلب مجتمعاتنا الإسلامية التائهة من يعيد سيرة صلاح الدين الأيوبي، الأجانب الذين يحترفون الغزو الفكري صدنا يُقَدِّرون هذا، يظلون خائفين من أن يولد فجأة في المجتمعات الإسلامية من يعيد سيرة عمر بن الخطاب أو صلاح الدين الأيوبي.
نعم. ومن ثَم يعود الإسلام إلى شأوه الباسق، ومن ثَم يُطَهَّر المسجد الأقصى من الرجس الذي أولغ فيه الصهاينة اليهود، من هنا نتفاءل نحن نسأل الله عز وجل أن يزدهر تفاؤلنا، ونسأل الله عز وجل ألا يُدْخِل اليأس بين جوانحنا، وحسبنا هذا النصر الجزئي الذي تألق في العالم الإسلامي أجمع، حَسْبُه موجباً للتفاؤل، وحَسْبُه سبباً للتفاؤل، لعل هذا النصر الصغير يكبر، ولعله يكون بحكمة الله عز وجل وقدرته شكلاً من النصر يتنامى ثم يتنامى ثم يتنامى إلى أن يتحول إلى شجرة من النصر وارفة الظلال يستظل بها العالم الإسلامي أجمع. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
ومما لا ريب فيه ولا شك أن الله عز وجل قد أكرم رسوله صلى الله عليه وسلم بجملة من الخوارق والمعجزات كان في مقدمتها ما أنبأ بيان الله سبحانه وتعالى من الإسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. ألا وهو القائل: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].
كان ذلك ليلاً. السُّرى في اللغة العربية لا يكون إلا ليلاً. ولعلنا نتساءل فلماذا قال بعد ذلك: ليلاً، والسُّرى لا يكون إلا ليلاً؟ لماذا قال: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}؟ الجواب عن هذا: أن البيان الإلهي قيد الإسراء بكلمة ليلاً وهي نكرة، نكرة؛ ليوضح لنا أن الإسراء لم يستغرق كامل الليل، وإنما استغرق جزءاً من ليل، من أجل ذلك قيد البيان الإلهي كلمة الإسراء بكلمة ليلاً مُنَكَّرة كما ترون.
ومما لا شك فيه أيضاً أن الإسراء الذي أكرم الله عز وجل به رسوله صلى الله عليه وسلم كان بكل من الجسد والروح. فلم يكن رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولو كان ذلك رؤيا لما استعظم المشركون إخبارهم بذلك، ولما كذبوه، ولما عاد بعض ضعاف الإيمان من الإيمان إلى الكفر، ولما تعجب بعض المشركين فوضعوا أيديهم على رؤوسهم استعظاماً للأمر واستنكاراً.
المنام، كل إنسان يمكن أن يرى من الرؤى ما لا حصر له وما لا حد له، يمكن أن يرى نفسه يعرج إلى السماوات العلى، يمكن أن يرى نفسه قد سار وأسري به إلى شرق العالم وغربه، ولا يوجد من يعجب من ذلك، لأنها أمور معتادة دأب الناس كلهم على أن يعرفوها من أنفسهم فضلاً عن غيرهم.
ولكن المشركين استعظموا خبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وكذبوه، وظنوا أنهم قادرون على أن يزعزعوا إيمان أبي بكر الصِّديق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتسارعوا إليه يقولون: أسمعت ما يقول صاحبك؛ إنه يقول كذا وكذا وكذا؟ فقال لهم هادئاً مطمئناً: لئن قال كذلك فقد صدق. إني لأصدقه على ما هو أبعد من ذلك.
هذه نقطة تتعلق بالعقيدة ينبغي أن نعلم أن الإسراء إنما كان بجسده وروحه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن بروحه مناماً فقط، للسبب الذي ذكرته لكم، بل للدليل الناصع الواضح الذي ذكرته لكم. على أن بيان الله عز وجل أوضح ذلك عندما قال ربنا سبحانه: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} {أَسْرَى بِعَبْدِهِ}: وصف العبودية إنما يتجلى بالذّل والانكسار والتواضع، وهذه الصفة إنما تتجلى على الكيان البشري للإنسان، إنما يتجلى وصف الانكسار ووصف الذّل في كيان الإنسان جسماً، ومن أجل ذلك قال ربّنا عز وجل: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} أي بهذا الكينونة البشرية {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} بهذا الجسم البشري الذي ظل دائماً مصطبغاً بذلّ العبودية لمولاه وخالقه، ذلّ العبودية لا يتجلى في المعاني الروحانية، لا يتجلى في الأمور الوهمية، وإنما يتجلى ذلّ العبودية والانكسار عبوديةً لله عو وجل في الكيان الجسمي.
ولكن ما الحكمة من أن يشاء الله عز وجل أن يجعل هذه الخارقة متمثلة في سُرًى بالليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى دون غيره؟ لماذا إلى المسجد الأقصى دون غيره؟ لأنهما مكانان لا ثالث لهما - أيها الإخوة - آنذاك في الكرة الأرضية، قدَّسهما الله سبحانه وتعالى، وبارك فيهما، أولهما المسجد الحرام، ثانيهما المسجد الأقصى، وإنما يسمى الأقصى أو سُمي آنذاك بالأقصى لأنه لا يوجد من بعده أي مسجد يُحَج إليه أو يزار، فهو أقصى مسجد في المعمورة يبتعد عن المسجد الحرام آنذاك، كانت هذه الخارقة متمثلة في هذا الربط الدقيق الباهر بين قدسية المسجد الحرام وقدسية المسجد الأقصى.
تجلت هذه القدسية وتجسدت في الصلة التي ما بين هذين المسجدين، وتجسدت هذه الصلة بهذا الإسراء؛ إسراء الله سبحانه وتعالى برسوله بالوسيلة التي شاءها من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، جعله الله عز وجل بياناً باهراً بليغاً يوضح مدى قدسية المسجد الأقصى، وكأنهما كفتان متعادلتان فيما يتعلق ببركات الله سبحانه وتعالى التي أنزلها على أرضه هذه.
ثم إن الله عز وجل شاء أن يجعل في هذه السُّرى في إسراء الله عز وجل برسوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ينزل فيه، ويصلي فيه ركعتين، ويتمثل له الأنبياء وقد جيء بهم ليأتموا به صلى الله عليه وسلم مع العلم بأن المسجد الأقصى كان آنذاك أطلالاً، وكان أنذاك بقايا من جدران وأعمدة لم يكن أكثر من ذلك، ما المعنى الذي أراد الله عز وجل أن يوحي به إلينا، وأن يستقر في أعماق نفوسنا بل في خَلَدنا وعقولنا؟ إنه بيان ناطق بقدسية هذا المسجد الأقصى، وبأنه عُهدةٌ عَهِدَ بها الله عز وجل إلى رسوله أولاً، ثم إلى أصحابه وأتباعه إلى يوم القيامة ثانياً.
ينبغي أن يكونوا حرَّاساً لهذا المكان الذي باركه الله عز وجل وبارك ما حوله، ينبغي أن يكونوا حرَّاساً جيلاً بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أو ما عليها لهذا المكان العتيد، لهذه الأرض المقدسة، ومعاني تقدسيها كثيرة يضيق الوقت عن بيانها وتفصيلها في هذه الساعة.
إذن هذه الخارقة التي أكرم الله عز وجل رسوله إنما هي رسالة أرسلها الله عز وجل إلى عباده جميعاً إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق رسوله، تقول: هذا المسجد أمانة بين أيديكم، عُهدة يجب عليكم المحافظة عليها، سيتعرض هذا المسجد للأذى، سيتعرض هذا المسجد لدنس المجرمين الضالين الفسقة العتاة التائهين عن صراط الله عز وجل، والمطلوب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، أمة الاستجابة، المطلوب منها أن يكونوا إلى قيام الساعة أعيناً حارسة لهذا المكان المقدس، بل أن يكونوا قُوى حارسة تكلأ هذا المكان المقدس ألا يُدَنَّس، وإن سرى إليه أي دنس فإن واجبهم أن يضحوا بكل ما يملكون في سبيل تطهير هذه البقعة الطاهرة.
وصلت الرسالة إلى أصحاب رسول الله والخلفاء الراشدين، ونهضوا بما كلفهم الله سبحانه وتعالى به، شُيِّد المسجد الأقصى مرة ثانية، وأُتِم بناؤه، طُهِّر المسجد الأقصى في عهد عمر بن الخطاب من الأقذار التي كان يتسابق إليها اليهود بأمر من الرومان وآخرون، عَمِد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فأخذ يطهر الصخرة بردائه من الأرجاس ومن الأقذار التي كانت هناك، فتسابق الناس من وراء أمير المؤمنين إلى تطهير هذه البقعة المقدسة من الدنس والرجس، ومن ذلك اليوم تألق المسجد الأقصى وتطهر من الأدناس كلها، إذن أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم كانوا على العهد، وقرؤوا الرسالة كما ينبغي، وأَدَّوا حقّ الله عز وجل عليهم في مضمون هذه الرسالة.
ثم إن الصليبية جاءت كما تعرفون فغزت غزوها، وعادت تدنس المسجد الأقصى، فهل استقر الأمر للصليبية الحاقدة إلى يومنا هذا، واستقر الأمر لها على ما ابتغت؟ لا. أرسل الله سبحانه وتعالى من عباده الصالحين الملتزمين بأوامره المصطبغين بذلّ العبودية لله سبحانه وتعالى، فبذلوا كل ما يملكون؛ بذلوا الروح والمال والسلاح وكل ما يملكون من قدرات إلى أن طُهِّر المسجد الأقصى من الرجس الذي حاوله عتاة الصليبية كما تعرفون، وهكذا جاء من قبلنا فكانوا خير من قرؤوا هذه الرسالة، وخير من نفذوا أمر الله سبحانه وتعالى فيها، وأنجزوا الواجب الذي حَمَّلهم الله عز وجل إياه.
واليوم يعود أولئك البغاة الماكرون أقذر من هم في العالم قذارة اليهود الصهاينة، يتبعهم الصليبيون الذين دفعوهم بمخططات يطول الحديث عنها، يعودون إلى تقذير هذا المسجد الأقصى. ورسالة الله عز وجل لا تزال تقرع أسماعنا، وبيان الله عز وجل البليغ فيها لا يزال يخاطبنا، فأين هم خلفاء أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم الخلفاء الراشدين؟ أين هم خلفاء صلاح الدين الأيوبي؟ أين هم خلفاء ذلك الرعيل الذين جاؤوا فأدّوا أمانة الله عز وجل في أعناقهم؟
نلتفت يميناً وشمالاً ونصغي إلى البيت المقدس وهو يئن ويهتف، يبحث عن الأناس الذين قرؤوا رسالة الله سبحانه وتعالى ليأتوا فينفذوا أمره، ولكن المسجد الأقصى غريب اليوم، غريب عن العالم الإسلامي، بل العالم الإسلامي غريب عنه أيضاً، نلتفت يميناً وشمالاً إلى من يمكن أن نقول: إنهم قد جاؤوا بعد ذلك الرعيل الأول، ثم الرعيل الثاني، وها هم ينهضون لأداء هذه المهمة ولإنجاز مضمون هذه الرسالة نلتفت يميناً وشمالاً فلا نرى، لا نرى إلا خَوَراً، لا نرى إلا عكوفاً على الشهوات والأهواء، لا نرى إلا أناساً يعبدون كراسيهم، لا نرى إلا رجالاً صغاراً صغاراً، الأطفال الذين يتحركون في المهد أكبر منهم شأناً وعزاً، لا نرى إلا هؤلاء الرجال الصغار، معشوقهم طعامهم وشرابهم، محبوبهم شهواتهم وأهواءهم، مهوى قلوبهم كراسيهم، أجل.
لا دين لهم إلا هذا، ولا مطلب لهم إلا هذا. المسجد الأقصى.. ليحترق.. المسجد الأقصى.. ليتهدم. المسجد الأقصى.. ليرتع فيه الصهاينة ما شاؤوا أن يرتعوا، أما هم فلا شأن لهم بذلك، لا شأن لهم إلا بالكراسي التي يتبؤونها، لا حُلُم لهم إلا أن يتقلبوا في مِهاد أهوائهم وشهواتهم، هذا هو الواقع الذي نراه. أنجز المسلمون من قبل الواجب الذي أناطه الله سبحانه وتعالى في أعناقهم، ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسيلقون غياً.
يا عباد الله: لا يجوز لنا أن نيأس من رَوْح الله، والمؤمن دائماً متفائل، ومُعْتَمَده في هذا التفاؤل ليس سبباً من الأسباب المرئية، فنحن لا نرى سبباً من الأسباب المرئية يدعونا إلى التفاؤل، ولكن مُعْتَمَدنا في التفاؤل قدرة الله عز وجل، سلطان الله عز وجل، هو القادر على أن يخلق من اللا شيء شيئاً، هو القادر على أن يهدي هؤلاء التائهين والضالين، هو القادر على أن يوجد من قلب مجتمعاتنا الإسلامية التائهة من يعيد سيرة صلاح الدين الأيوبي، الأجانب الذين يحترفون الغزو الفكري صدنا يُقَدِّرون هذا، يظلون خائفين من أن يولد فجأة في المجتمعات الإسلامية من يعيد سيرة عمر بن الخطاب أو صلاح الدين الأيوبي.
نعم. ومن ثَم يعود الإسلام إلى شأوه الباسق، ومن ثَم يُطَهَّر المسجد الأقصى من الرجس الذي أولغ فيه الصهاينة اليهود، من هنا نتفاءل نحن نسأل الله عز وجل أن يزدهر تفاؤلنا، ونسأل الله عز وجل ألا يُدْخِل اليأس بين جوانحنا، وحسبنا هذا النصر الجزئي الذي تألق في العالم الإسلامي أجمع، حَسْبُه موجباً للتفاؤل، وحَسْبُه سبباً للتفاؤل، لعل هذا النصر الصغير يكبر، ولعله يكون بحكمة الله عز وجل وقدرته شكلاً من النصر يتنامى ثم يتنامى ثم يتنامى إلى أن يتحول إلى شجرة من النصر وارفة الظلال يستظل بها العالم الإسلامي أجمع. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.