يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. آية 1-3 سورة الممتحنة.
تبين هذه الآيات حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الأجتماعي والدولة في المجتمع المدني كما توضح المنهج الآلهي المختار لحياة الجماعة المسلمة والمختارة لقيادة بشرية والتي أناط بها الله تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الإنسانية.
وهي تستهدف أقامة عالم رباني خالص في ضمير المسلم عالم محوره الأيمان بالله وحده يشد المسلمين إلى هذا المحور وحده بعروة واحدة لا انفصام لها ويبرئ نفوسهم من كل عصبية للقوم أو للجنس أو للأرض أو للعشيرة أو للقرابة ويلغي كل ولاء من المسلم إلا الولاء لله ولرسوله ولدينه وعقيدته.
ويجعله يقف تحت راية الله في حزب الله ولقد كان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالا بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت فكان يأخذهم بعلاجه الناجح البالغ بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث.
وتذكر الروايات حادثا معينا نزل فيه صدر هذه السورة وقد قيل في هذا الحادث أن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من المهاجرين وكان حليفا لعثمان فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة حين نقض أهلها عهد الحديبية لـ (وناصرت حلفائها من بكر على خزاعة حلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين).
فأمر رسول الله المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال: الله عم عليهم خبرنا وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بوجهته وكان منهم حاطب (فعمد فكتب كتاباً وبعثه مع امرأة مشركة من مزينة) إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوهم ليتخذ بذلك عندهم يدا فأطلع الله نبيه على ذلك أستجابه لدعائه وإمضاء في قضائه في فتح مكة فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها.
وقد روي البخاري بسنده في المغازي ورواه مسلم في صحيحه من حديث حصين بن عبد الله عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرتد والزبير أبن عوام وكلنا فارس وقال؟ انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فأن بها امرأة تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا الكتاب؟ فقالت: ما معي كتاب فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا فقلنا ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنك.
فلما رأت الجد أهوت إلى حجرتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته فانطلقا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب حاطب كتابا لأهل مكة يخبرهم فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم على غزوهم وأعطاه لأمراة وأمرها أن تخفيه، وأعلم الله رسوله بذلك فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير إلى المرأة وأحضر الكتاب.
وأمر النبي بقرآته فأستدعى حاطبا وسأله: ما حملك على ما صنعت، فقال والله يا رسول الله ما بي إلا أن أكون مؤمنا وأردت أن تكون لي عند القوم يد، يدفع الله بها عن أهلي ومالي عندهم وكل من عندك من أصحابك لهم بين القوم عشيرة يدفع بها الله عن أهله وماله فقال صلى الله عليه وسلم: صدق لا تقولوا إلا خيرا.
وأراد عمر قتله قائلا: لقد خان الله ورسوله والمؤمنين فأعلمه النبي بأنه من شهد بدراً والله قد أطلع على اهل بدر فقال لهم أفعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم فدمعت عينا عمر وقال الله ورسوله أعلم.
والوقوف أمام هذا الحادث وما دار بشأنه يوضح لنا ما يلي: أن أول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب وهو المسلم المهاجر وهو أحد سفراء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك مصر ومقوفسها وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على سر الحملة وفيه ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها.
وأنه لا عاصم لها إلا الله من هذه اللحظات فهو وحده الذي يُعين عليها، ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعجل حتى يسأل: ما حملك على ما صنعت؟ في سعة الصدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه وإدراكه الملهم بأن الرجل قد صدق ومن ثم يكف أصحابه عنه حين يقول: (صدق لا تقولوا إلا خيرا) ليعينه وينهض به من عثرته فلا يطارد بها ولا يدع أحدا يطارده.
بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر أنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني أضرب عنقه، أن نظرة عمر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وأيمانه الجازم أما رسول الله فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها ومن كل جوانبها مع العطف الكريم الملهم في موقف المربي الكريم العطوف المتأني.
ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب وهو في لحظة ضعفه ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح حين يقول: أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع بها الله عن أهلي ومالي فالله هو الذي يدفع وهذه اليد لا تدفع بنفسها وإنما يدفع بها الله.
ويؤكد هذا التصور في بقية حديثة وهو يقول: وليس من احد من أصحابك إلا ولو هناك من عشيرة من يدفع الله به عن أهله وماله. فالله حاضر في تصوره وهو الذي يدفعه العشيرة وإنما العشيرة أداة يدفع الله بها.
أخيرا يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث حيث يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله بكشف ما فعل حاطب ليكف ضرر فعله عن المسلمين كأنما كان القصد هو كشفها فقط وعلاجها وتفادي ضررها والتعبير القرآني في قوله: {يا أيها الذين آمنوا}.
يشعر المؤمنين بانهم منه وإليه يعاديهم من يعاديه فلا يجوز أن يلقي بالمودة إلى أعداءهم وأعداءه ثم يذكرهم بجريمة هؤلاء الأعداء عليهم وعلى امينهم وعلى رسولهم: {وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وأياكم أن تؤمنوا بالله ربكم}.
فماذا بقى بعد هذه الجرائم الظالمة للموالاة والمودة فهم كفروا بالحق وأخرجوا الرسول وأذن القضية قضية العقيدة والإيمان فيجب أن يكون ولاء المؤمن لله وللرسول وللدين والعقيدة ولا يجوز ان تكون هناك موالاة أخرى خارج الدين.
ثم يهددهم بأن من يوالي غير الله ورسوله والمؤمنين فقد ضل سواء السبيل {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فأن حزب الله هم الغالبون}.
ثم يبين لهم الأسوة التي يجب أن تتبع بالموالاة وهي أسوة إبراهيم {والذين معه إذ قالوا لقومهم أنا براءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده}، أن إبراهيم قد وعد أباه بأن يستغفر له